جنين الحرب

 

جنين الحرب 


كان ذلك في آخر ليلة من سنة 1956 عندما بدأت أسمع للمرة الأولى. بدأ الأمر بشعور غريب بالتوتر يداهمني للمرة الثانية. كانت الأولى عندما اندلق شيء ساخن على بطن أمي. و أما هذه المرة فلأنني أسمع ضجة صاخبة تستفز هدوئي و تجعلني أتخبط و أتقلّب و أركل، حتى أن لمسات أمي الحنونة لم تخفف عني و لم تجعلني أستكين. ظللت أتقلب في مرقدي الضيق المريح و الصوت الذي لا أدري ماهيته يزيد  من حنقي: لقد كان صوتا يقول "آه" بشكل خافت مع كل حركة مني.
 
طال ذلك اليوم كثيرا و أنا أسمع أشياء غريبة و قد كنت من قبل لا أسمع إلا صوتا جميلا يريح الأعصاب - لا أجد بما أصفه لك و لكن جرب أن تقحم رأسك في عمق البحر و سيراودك إحساسي - و أما اليوم فقد صارت تتهادى إليّ أصوات كثيرة لا أميّزها!
 
بقيت كذلك و العصبية تنال مني و من أمي المسكينة إلى أن شدني صوت حنون يقول جملة لم أفهمها " السلام عليكم  " و تلاه صوت آخر - الصوت ذاته الذي كان يتأوه صباحا- يقول " و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته "
 
ثم بدأت أحس بلمسة أمي ثم بلمسة أبي. إذا هذان الصوتان كانا لأبي و أمي! فجأة هدأت و عدت إلى سكوني و سلامي و أنا أحاول أن أصغي إليهما بلهفة كبيرة. ماذا يهم إن كنت لا أفهمهما ؟ المهم أنني أحبهما و محبتي تبرر لي اختتالي لأحاديثهما.
كنت أستمتع بإنصاتي، بكل شغف و امتثال، إلى أحاديث مبهجة. إنها المرة الأولى التي أسمع فيها صوتيهما و التي أستطيع فيها أن أندمج مع العالم الخارجي.
انقضت أيام و صرت أميّز صوتيهما، بل و أفهم جل كلامهما و أرهف السمع لأبي حين يقرأ لي القرآن لأهدأ،  أنصت له و هو يغني لي بعض الاغاني التي أحبها بصوته، أطرقُ إلى أمي و هي تقرأ له روايات ألَّفتها و هو يصيخ إليها باهتمام و يصحح أخطاءها، بل و يعطيها أفكارا مختلفة ...
 
مرت الأيام و أدركت من الأحاديث أنني ثُمانيّة! ثمانية أشهر في هذا الرحم المريح و في هذا السائل الدافئ الذي يحول بيني و بين الإرتجاف من البرد كأميمتي الواهنة - على حد قولهم -. أدركت أننا نكاد نلمس عنان السماء من فرط الحرية ، فقد استطعنا أن نتنصل من الرقّ و نستقل. أدركت أننا وطن حر يناضل من أجل كسب قوت يومه و حسب. و للأسف أدركت , من الأحاديث, أن أبي سياسي متلاعب قد يضحي بالكثير من أجل بلوغ السلطة. كما قيل مرة أنه إنسان معقد و مريض نفسي لأنه يطلق لحية شعثاء و يحرّم كل الفنون في حين يبلغ التحرر عندنا أقصاه. ثم سمعت في سياق آخر أنه رجل غبي و خطير يهابه الجميع فينفضُّون من حوله. و الأغرب أن يتم نعته بغير السوي لأنه لا ينظر إلى النّساء مما يعكس خوفه من أن تشي نظرته بعدم اتّزانه و نواياه الخبيثة.
كيف يعقل أن يهين المرأة بتلك الطريقة و العالم ينحت مكانة لها عبر تحريرها من 'السفساري' الذي كان يطمس معالم أنوثتها و يخدش كرامتها؟

 أدركت الكثير من الأشياء التي لم و لن أؤمن بها أبدا، فأنا ثمانية حكيمة تجيد التفريق بين الخبر المؤكد و الإشاعات. لَإِنه من الفدامة أن تُوَجه أصابع الإتهام نحوه و هو الذي حدثني عن نضاله العظيم و محاولاته اللامتناهية لإدخال بعض النور إلى عقول افترستها الظلمة، و هو الذي يغنّي لي كل ليلة أغان يخبرني أنها من الزمن الجميل لسيّدة تدعى فيروز ، و يستمع لأمي تقص عليه رواياتها عن الاستعمار و التي تحمل في طياتها الكثير من الجرأة دون زجرها. هو يغض بصره مكتفيا بأمي التي لطالما سمعْتُه يتغزل بها و يحتضنها، يحملها بين ذراعيه إلى الحمام اذا ما تمكن الوهن منها. على خلاف الجارات اللاتي لطالما عُنِّفنَ من قِبل أزواجهن و كان دورهن في المنزل يقتصر على التنظيف و الطبخ و الإنجاب. و يالها من وظيفة سامية حددها لها الرجل في ذلك الزمن!

كان أبي قد سبقهم و أخبرني، قبل أن أسمع منهم هذا، أن الله أمر بغض البصر و أنك كما تدين تدان و أن النظرة الاولى لا يحاسب عليها الإنسان و لكن النظرة الثانية لها حسابها، أخبرني أنه رجل محترم "و المحترمون يا بنيتي مساكنهم السجن". و لكن، منذ ذلك اليوم و أنا أنتظر أن أسمع صوته و أحس لمساته بَيْدَ أنني لا أسمع إلا نشيج أمي. أسمعها في أواخر الليل تداعبني و تقول لي " لا تصدقيهم يا حبيبتي فأبوك رجل سوي لا تشوبه شائبة، عشنا أحرارا و نحن مستعمرون و ضحكنا و استمتعنا بالحياة و الكل منكوبون. لقد كنا استثناء و لكن ذلك مخفي على معدومي الأبصار و البصيرة".
 
أحاول دوما أن أواسيها ببعض الحركات الهادئة و لكنني في كل مرة أنام تاركة إياها بمفردها، تهرق على بطنها بعض المطر الساخن.
 
و ها أنا هنا، تحول بيني و بين الخروج إلى ذلك العالم الأحمق المخدوع أيام معدودات، و فرصي في الإختيار تتلاشى: مازلت لا أدري أأختار أن أبقى و أنير لهما الحياة الضنك أم أخنق نفسي بهذا الحبل الغليظ الذي يغذيني لكي لا أرى والدي يختنق بحبل الحرية!
 
#وفاءـالهذلي

 

مواضيع ذات صلة:

وضعت ابنا ليس ابني!!

 غارقون في مستنقع الحرية

3 شخصيات مضطربة قد تقابلها و كيفية إثبات ذاتك أمامهم


تعليقات