أَنانيَّة الأُمومَة


أَنانيَّة الأُمومَة


توالت الأشهر و أنا أقصد قسم التوليد كل يوم حاملة معي بسمة تقاسمتها كل النسوة التي قابلتهن و يدا تربت على كتفهن مرددة :" كل شي سيكون بخير " قصدت ذات القسم ككل يوم، و لكن النساء كن يتنافسن على خوض تجربتهن الأولى في بث الحياة. و الكل يدرك كل الإدراك أن التجربة الأولى تطول، تتمطت، و كأن الألم يرفض إلا أن يطهر المرأة من كل ذنوبها قبل أن يذبل. سيطول بهن المخاض و سوف لن أجد شيئا يلهيني غير الحديث معهن و التأكد من سلامة أجنتهنكنت أجالس بِكرية حين نادتني الموجهة الأحب إلي و الأطيب على الإطلاق. " هناك حالة نادرة هنا، يحبذ أن تطلعي عليها فقد تكون هذه فرصتك الوحيدة. " هرولت إلى غرفة إنعاش الولدان حيث وجدت ما يقارب الرهط حول الصغير يرمقونه بشفقة فائقة و يتحاشون لمسه و أنا أشاهده و الدمع يكاد يفر من عيني. كان جلد الرضيع مغطى بالفقاعات و كانت هناك بعض المواضع مثل قدمه و عضوه التناسلي و فمه و رقعة صغيرة في رأسه قد انسلخ منها الجلد و هو يئن دون أن يعلو له صوت. كان الجميع يتجنب لمسه و أنا أتساءل و ألح في أسئلتي فيجيبني أحدهم " نحن بانتظار موافقة رئيس وحدة حديثي الولادةكانوا ينتظرون موافقته من أجل أخذ هذا الرضيع المتألم إلى وحدته. و لكن الرد أتى بالرفضأخذ أحد الأطباء يعقم جراح الصغير و يضمدها و الكل يشطاط غضبا و قهرا و ألما على هذه الروح البريئة التي سيمضي سعيها في الحياة أنيناو لكنني انشغلت بوصف المصيبة التي رأيتها دون أن أقص عليكم الأحداث وفقا لتسلسلها الطبيعي... جاءت هذه السيدة إلى مستشفى التوليد و قد استوفت فترة الحمل ،، تلقت الاهتمام و تكرر على مسمعها ذات السؤال لبضع و عشرين مرة : " هل تعانين من مرض ما؟؟ هل يعاني أطفالك من سقم ما ؟ " و لكن الإجابة كانت نفيا مطلقا و ابتسامة عذبة تليها تمتمات بالكاد تسمع " لقد أكد لي الطبيب أن صغيري بخير من خلال التصوير بالأشعة فوق الصوتية". و لكن و إثر الولادة ،، صرحت المرأة بصوت مرتعش " أنا أعلم أن صغيري بخير و لكنني فقدت طفلين جراء مرض انحلال البشرة الفقاعيو من هناك بدأت التعقيدات تتزايد و علامات الإستفهام تتكاثر من حولنا و الجميع فارع فاه لا يدري فيم كذبت المرأة ولا فيم رفض الطبيب قبول المولود الجديدعدت إلى المبيت ضامرة وزرا لا يقوى فؤادي على حمله و أفكارا متضاربة لم يتسنى لعقلي ترتيبها و كمية رهيبة من اللوم الذي ألقيه على منظومة الصحة التي تفشى فيها الحيف حتى النخاعانقضت سويعات الراحة فحملت حقيبتي و مضيت أشق طريقي نحو الجامعة التي لولاها لما كنت شاهدة على مثل ذلك الألمو لحسن الحظ فقد كان الدرس يتمحور حول الرضع و الأطفال حديثي الولادة و لكنني أقسم أنني لم أعرف من الدرس سوى عنوانه - من شدة التفكير في مآل الرضيع المحتوم- و نهايته التي أُعلن عنها من خلال شكرنا على الإنتباه (و كأنني أحمد بما لم أفعل). رفعت عيني فألفيت الطبيبة تلملم أغراضها و تهم بمغادرة القاعة فانفلت عقد الصبر لدي و تبعثرت حباته فإذا بي أقاطع استرسال خطواتها قائلة :" - عذراهل تسمحين لي ببعض من اهتمامك؟ 

طبعاتفضلي .. ما الشيء المبهم في الدرس 

لاسؤالي ليس عن الدرس... بل عن الطفل الذي تم رفض استقباله لديكم؟ أنا لم أفهم تصرفكم و يسعدني أن تكتمل الصورة في ذهني حتى أطمئن 

- ... ذلك الرضيع المسكين هو ضحية لوالدتهلقد وضعت توأما لدينا منذ سنوات و كان أحدهما معافى و الآخر كان يعاني من هذا المرض فقبلناه لدينا و اهتممنا به في حين أن أمه أخذت صغيرتها المعافاة و فرت تاركة طفلها الكليم، حاولنا الإتصال بها مرارا و تكرارا و لكننا اكتشفنا أنها كانت ضيفة في أحد البرامج التلفزية و أنها اتهمتنا بإحراق طفلها و تمادت في تشويه سمعتنا و في ادعاءاتها الباطلة دون أن تحنو على رضيعها الذي بقي لدينا لنصف حول... كان الطاقم الطبي يتكفل بأكله و ملبسه و حتى بتدليل الألم النفسي الذي يتحمله الطفل جراء الوحدة و فقدان الأم.

 - و لكن ما ذنب الفتى أن يترك للموت و أن يلقى على عتبة العذاب ؟ 

لا ذنب له و لا ذنب لنا كذلك في ما اقترفت والدته، لقد قبلت أن تأتي في المرة الفارطة و تأخذ طفلها فرحبنا بها و علمناها كيف تعتني بجراحه بعد أن هجرته لستة أشهر. .. و أقسم لك ألا شيء سيختلف هذه المرة.. ما دمنا قد علمناها كيفية الإعتناء به فهذا كل ما نستطيع أن نقدمه إذ أن مرضه جيني ذاتي المناعة، فلا دواء له سوى تعقيم الجرح و درجة عالية من النظافة

هل ستكون نهايته على غرار أخويه؟ 

للأسف... فمثل هذه الأمراض يتطلب مستوى معيشيا متوسطا على الأقل....

شكرت لها اصغاءها و تفسيرها للموقف الذي كان مبهما بالنسبة لي و تلاشى الحقد الذي نما بداخلي تجاه المستشفى في حين أنه تضخم تجاه السيدة التي لم يكفها هجر طفل لمجرد أنه مريض بل و قررت أن تهب للعذاب رضيعا آخر كل خطيئته أنه تشبث بذلك الرحم سالكا في ذلك سبيل أخويه... لماذا نحن البشر نَعتَبر أَنَّ الأُمومَة و الأُبوَّة حَقٌّ مكْتَسَبٌ دَونَ أَن نُلقِي بَالًا للحُقوقِ اللاَّمتناهِية لذلك المَخلوقِ الصَّغير؟ لِمَاذَا نُغَذِّي أَنَانِيَّتنَا و نُلَمِّع صُورنَا مِن خِلَال إثبَات قُدرتِنَا عَلَى الإِنجَاب للعَالمِ دَونَ أَن نُدرِك أنَّ أُولى الأَولَويَّاتِ هِي تَوفِيرُ حَيَاةٍ كَرِيمَةٍ لِتلكَ الرَّوح البَشَرِيَّة؟ لِمَاذَا نَهرَع للإِنجَابُ فِي أَوَّلِ فُرصَةٍ تُتاحُ لَنَا دُونَ أَن نَدرُس إِمكَانِيَّة وِلادَة طِفلٍ مَعلولٍ؟ هَل نـستَعدُّ نَحنُ البَشرُ لاستقْبَالِ مـخلوقٍ "نَاقصٍ"؟ هَلْ نَجمَع لَهُ مَالًا لتَلبِيةِ حَاجِياته و لِتحمُّلِ عِبئ عِلاجِه ؟ كُلُّ هَذَا لا يَهُمُّ مَا دُمنَا قَادرينَ على الإِنجَابِ فَأَهلًا بالأَصحَّاء وَلا أَهلًا بذوِي الإحتياجَات الخاصَّة الذِّين لَم نَحسب لَهم حِسَابًا قَبلَ مَولدهمْحُبًّا فِي اللّـه ارحَموا هذِه الأَنفسَ الضَّعيفة البَريئةَ ! فَمن كَان لا يَقوَى عَلى الإعتِناء بِطفلٍ مَريضٍ فلَا حَرج عَليهِ في أن يَنجبَ أَسَاسًاكَفَى إهمَالًا للِأطفال الذِّينَ أُسكِنوا الشـوارِعَ.

#وفـاءـالهذلي



مواضيع ذات صلة:

ذاكرة القلوب 

قاتل الأحلام 


تعليقات