جنة الأرض

فلسطين

جنة الأرض


توفيتُ يَومَ أمسٍ غَارقَة في البَحرِ وَ أنَا بِصدَد التَّروِيحِ عَن نَفسِي!
أَمضَيتُ اليَومَ المُنصَرمَ كُلَّه عَاكِفةً ببَيتِ أُمِّي أُشاهِدهَا وَ هِي تَتلَمَّس جَسدًا كَان لِي، تُقبِّلهُ و أنَا أَحتَرقُ حُزنًا! قَبلِينِي أَنا، هَا أنَا خلفَك، ٱحضُنِي رُوحِي الوَحيدَة وَسطَ عوِيل الأَحيَاء.
تَوالَت السَّاعَات فإذَا بِهم يُفيضُون عَلى جَسدِي المَاء، يُلبِسونَني ثَوبًا سأُزفُّ فِيهِ إِلى القَبرِ ثُمَّ يَحمِلونَني علَى الأكْتافِ. شَيَّعتُ وَ إِيَّاهم جَسدِي الحَبيب لأودِعه فِي حُفرَة ضَيقَة ثُمّ قَصدتُ بَيتنَا الدَّافئ حَيثُ كَان أَبي يُخاطِب أُمِّي قائلاً :" لَم يَكُن دَفنُها عَسيرًا ما شَاء الله. أَسكنَها الله فَسيح جنَّاتهِ." لَم يَكنْ يَدرِي أَننِي كُنتُ أَهلُّ عَليَّ التُّرابَ بِكلِّ مَا أوتيتُ من قُوَّة، كُنتُ أغمُر الوَجهَ السَّاكنَ بالتُرابِ، كُنت قد بَغضتُ النَّظر إِلَيه إِذ أنه يُذكِّرني بِأعظَم خسَائري أَلا و هِي الحَياة!
انقَضَت تِلكَ الليلة وَ أَنا أُعانِق أُمِّي لآخر مرة قَبلَ أن أمضِي للسَّماء.
سَحَل سُكونَنا آذان الفَجر. فَرُحتُ أُعايِنُ غُرفتِي للمرةِ الأَخيرة. كَانت صوَر القُدس تغَطي جدرَانها و تُغوي قلبِي المُتيَّم. كم كنتُ أتمَنى أَن أُصلِّي بالمَسجد الأَقصى... و لَكن، مَهلا، مَا الذي يمْنعُني مِن ذلك الآن؟
حَمَلتُ عِشقي الدَّفين و شَقَقت طريقي إلى أرض الهَوى. و مِن العجَب أَنَّني بَلغتُ مَقصَدي سَريعًا! رُبَّما في سَاعَات أَو دقائق كَما تَعُدّون فَالوقتُ هُنا يَختَلفُ عنهُ لَديكُم.
مَررْتُ وَسطَ جُنودِهم بِكلِّ سَلاسَة. كُنتُ أَسيرُ مُطمئِنة البَال أُغازِل أرضَ الزَّيتونِ حَتى سَمعتُ صوتَ انفِجارٍ مُدوٍ خِلتُ أنه أوَّل نَفخة في الصُّورِ. إنها القيامة! حَملنِي الرُّعب عَلى الرَّكض بلَا دَليل! و لكن، مهلا !ممَّ أَهرب؟ أنا ميتةٌ! بئسًا لرُوح لَم تعتَد على المَوت بَعد!
عُدت إِلى أَرضِ المَعركَة حَيثُ رَمقْت وُجوهًا عَبثَ بِجمالِها أَطفَال القَدرِ و أَجسَادا تَركَت أَشلاَءها في كُل حَدبٍ و صَوبٍ! كَانت الملائكة تَشدُّ على أيادِيهم، تُواسِيهم، تَبثّهم جَلدًا و صَبرًا!
هُنَاك رَأيتُ أُناسًا يَموتُون نِضالا و جِهادًا في سَبيلِ وَطنٍ انتَشلَه مِنهُم إلَه النَّهب. سرقوا مِنهُم وَطنًا بِأكملهِ دُونَ أَن يَقفُوا أمَام المحَاكم. لَكن السَّبب جَليٌّ؛ لَا تسعُ المحكَمة الوَطنَ وَ لا يستَطيع السَّارق أن يأتي بما سرَق و لَن يَجدوا فِي بيتِه وَطنًا مُهرَّبا و لا في جَيبه أَرضًا مُغتَصبةً. و هَكذا فَإِنَّهم أحرارٌ رَايَتُهم البَراءة. فالمَحاكِم خُلقَت للمُبتدئين الذي يَسرِقونَ لُقمًا لَا للمحترِفين الذين يَسرِقونَ تَاريخًا.
قَبَّلتُ تُرابَ وَطنٍ منكوبٍ ثُم هَرعتُ أُقدِّم بَعض الإِسعَافاتِ الأَوليَّة للمُصابِين وَ أُغمِض أَجفانَ المَوتى.
أَخذنِي الفُضولُ، إِثرَ ذلِك، إِلى أنقَاض مَسجدٍ قدِيم! تَوغَّلت فِيه بِتُؤَدةٍ حَتَّى صَادَفتُ بعضَ الأرواحِ الفِلسطِينيَّة هُناكَ. تَبادَلنَا التَّحية بِحرَارة، فإِذا بِهم يَسرُدون عَلي آخر لَحظاتِ حَيوَاتهم. لَقد فَاضت أَروَاحهم للسماء في هذا المَسجِد بِسبَب غَارة نَزَلت بِهم و هُم يُصلُّون!
عَلمْت مِنهُم أَنَّهم يُرمِّمونَ المَسجِد "الدِّينُ لا يَنهَار، فليُهدمُوا وطنا أو عالَما بأَسره...لكن الدِّين له حماته." هَكذا كَانت حُجَّتهُم.
مَدَدتُ يَدي بِالعونِ و حِينَها أَدرَكتُ أنَّنا لَسنَا بِمُفرَدنَا فِي هذِه المُهمَّة فَقد انضَمَّ لَنا مَلكَان مِن الجِنّ و مِثلُهمَا مِن المَلائكَة. انْقَضى الوَقتُ بِصُحبَتهِم خَفِيفًا لَملَمنَا فِيه كُلَّ البَقَايا المتناثرة مِن هَذا البِناء العريق. تَسامَرنَا قَليلَا ثُمَّ تَرَكتهمْ علَى أمل اللقاء فِي جَنَّة الخُلود.
كَان وَقتِي المُتبقِّي في هُدنةِ مَا بَينَ الحَياةِ و المَوتِ يُشارفُ عَلى النَّفاذ، فَوَجَّهت وَجهِي إلى القُدسِ لِأَسجُد عَلى أَرضهَا الأَبيَّة وَسط شَعبهَا الحَبيب. اعتَليتُ القُبةَ الذَهبِيّة لأُشاهِد فِلسْطِينًا أَعياهُ التَمنِّي. فَلمْ أَرَ سِوى المَنيَّة تُخيِّم بأَرضنَا. أَبكَانِي هَادمُ اللَّذات وَ أَبكَاني الغبارُ الذي حَجب بَريق الأقصى. فهَدفتُ أُلَمِّع القبة وَ أَمحي عَنها آثَار الدَّمار ثم دَلفتُ إِلى قَلبِ المَسجِد أُقبِّل حيطَانه تارة و أصلي فيه تارة أخرى. لقد عَشقتُ كُلَّ تفاصيله فَغادَرتُه حَامِلة عَذبَ الجوى. وَقَفتُ ببَابه أَرمُقه بِعيْنٍ عَاشقَة. و فَجأَة وَقعَ نَظري عَلى أَرواحٍ لَم تَكن بادِيةً لِي: بَعضُها تَقِف منتصِبةً بِالسردَاب الذي حفره الصَّهاينَة تحتَ القُدس لِيهَدمُوه. كَانت تَرفعُ المَسجِد بأيدِيها رِفقَة بَعضِ المَلائكَة العِتادِ. كَانُوا مَلايينًا يَحولُون دُونَ سُقوطِ الأَقصى وَبالتَّالي دونَ سُقوطِ فلَسطين.
و أمّا البعض الآخَر فقد كَانُوا يُثَبِّتونَه بِحبالٍ غَليظَة من الجنَّة، ثَابتِين لَا يَبغُون عَن حِمايَته حِولَا. و عندَها بَلغَنِي سَببُ شُموخِ القُدسِ مَهمَا اشتَدَّت مُحاوَلات الصَهاينة لانتهَاكهِ. وَ لَكنَّ الأَعجبَ مِن كلِّ ذلك هوَ المَلكُ الجَامد فِي مَحلِّه عَلى بُعد خُطواتٍ مِن الأقصى. قَصدتُه أُلقي التَحيَّة بَيد أَنه لمْ يُشبِع فُضُولي و لَم يُجِبني فعُدت أَدراجِي إلى الحُدودِ قَاصِدةً أَرضِي و قَبرِي. لَكنَّني لَن أَبلُغ السَّلام حَتَّى أُدركَ مَاهيَّة ذلِك المَلك. فإِذا بشَيخٍ وَقورٍ يُقاطِع وِحدتي و يقُول " السَّلامُ عَلى رُوحكِ يا ابنَتي، أمَّا ذلك المَلَكُ فهُو أَشَدُّ المَلائِكَة قُوةً و أَما عن وظِيفتِه فَإردَاء أعدَاء الإِنسانيَّة صَريعِين إثرَ كُل مُحاولةٍ لتَدمير الأَقصى أو لِإيذاء المُصَلِّين."
ثُمَّ اخْتفَى الشَّيخُ تَاركًا روحِي تَهفُو للنِّضال.
كَفانَا سلامًا مُزيفًا! هذه قَضيَّتنَا و هَذا وَطننَا و الإِسلامُ دينُنا و عَلى الحَقّ و الجَنّةِ فليتَنافسِ المُتَنافِسونَ.
سوفَ أَبقى هُنا و ليذهَب جَسدي الضَّعيفُ إلى الجَحيمِ و لتذهَب رُوحي الى القُدسِ!

وفاء الهذلي


مواضيع ذات صلة:

تعليقات

إرسال تعليق